أسعدني أن أوافق على الانضمام إلى لجنة تحكيم جائزة الملتقى للقصة العربية القصيرة لعام 2016 التي تمولها الجامعة الأمريكية والملتقى الثقافي في الكويت. ولقد استمتعت بقراءة مئة وتسع وثمانين مجموعة قصصية ضمن المجموعات التي تم ترشيحها للجائزة وباكتشاف جزءٍ من الخارطة الأدبية للعالم العربي
ويمكنني أن أقول بأنّه وللأسف فإنّ عدد الأعمال السطحيّة التي تنشر في العالم العربي مفجع، ولعل أهم سبب وراء ذلك أنه في كثير من الحالات يدفع الكاتب للناشر مقابل النشر مما أخلّ المعايير التي يطبقها المحررون لاختيار العمل والسماح له برؤية النور. وسبب آخر أيضا، هو شح الروح المهنية لدى دور النشر المتمثل في تفشي الأخطاء اللغوية والمطبعية في النصوص. فكما هو معلوم في بعض الدول العربية، يدفع المؤلف لدار النشر، وهي بدورها تحتفظ بمعظم المبلغ وتنفق القليل منه فقط على تحرير وطباعة وتدقيق النص
حقيقىة، يمكن تصنيف معظم المجموعات التي اطلعت عليها تحت بند السرد الصحفي أوالتقرير النثري أوالسيرة الذاتية أوالمذكرات أوالخواطر أو أدب الاعتراف، وذلك دون أدنى استخدام للأسلوب القصصي الدرامي. وربما كتب كثير من النصوص بسرعة، ولهذا نجد أنّ معظمها ضحل وفج وأحادي الطبقة ومليء بالتعابير المستهلكة دون أي حبكة أوبنية مدروسة. وفي حالات قليلة يتم إسقاط المشاهد الجنسية دون حاجة الى ذلك أو دون توظيف حقيقي لها في النص ودلالته مما جعلها تبدو دخيلة
وقد ظهر الوصف في معظم الأعمال جامدا، واللغة ركيكة ، والشخصيات مسطّحة. وفي كثير من الحالات تم استعمال الرومانسية التي عفى عليها الزمن، حيث نجد فيضا من العواطف والمشاعر غير المبررة في النص، وبالتالي؛ لا تستحضر في القارئ المتلقي أي ردود فعل نفسية لعدم وجود ما سماه إليوت بالمعادل الموضوعي*. وهكذا فشلت مجموعات كثيرة على مستويي الشكل والمضمون. وتجدر الإشارة إلى أن هنالك التباس بشأن الأنواع الأدبية، فالنثر ليس شعرا ومهما كانت الفقرة مكتوبة بشكل جميل فإنّ هذا لا يحولها إلى قصة قصيرة. ومن الملحوظ أيضا وجود حالة مفارقة شعرية إدهاشية في نهاية كثير من النصوص، وبالرغم من ذلك تبقى نثرا أو نثرا شعريا ولا تنطبق عليها معايير القصة القصيرة. وبعض الكتاب قد “أفرط في الكتابة*” محاولا استعراض العضلات اللغوية بلا طائل، حيث بقي النص ضحلا
وهنالك تفاوت كبير في مستويات الأعمال المرشحة للجائزة وضمن المجموعات نفسها. ولا تكفي أن تكون نية الكاتب حسنة ليتحقق نجاح العمل الأدبي
وكثير من الكتاب هم من ذوي النفس القصير حيث لم يستطيعوا إتمام إبراز جمال القصة. ومن الأعمال ماهو مفكك، ولكن لا يمكن أن نصنفه تحت بند أدب الصدمة*، الذي يتميز بوجود فجوات في السرد القصصي، مع اكتمال العمل وتحقيقه لأهدافه. وكان جليا أنه في كثير من النصوص تم إستعمال الكتابة للتنفيس عن الضغط النفسي وتطهير الذات
ولحسن الحظ هنالك قلة من الكتاب المرشحين للجائزة بدو متمكنين من تقنيات الكتابة القصصية وأدواتها، اذ استخدموا المونولوج الداخلي والأبعاد المتعددة والرواة غير الموثوق بهم وتيار الوعي وخلط اللهجات الاجتماعية والأصوات المتعددة، والتحول اللغوي والمزج بين الواقع والفانتازيا، واستخدام التناص والموروث الثقافي والأساطير. ويمكن تصنيف بعض النصوص بأنها حداثية أو ما بعد الحداثة، والقلة القليلة منها نسوية. وهنالك نصوص أصيلة وخلاقة يحلق فيها خيال الكاتب عاليا
وعند القليل من الكتاب، كما في حالة أنيس الرافعي، كان المزج بين الاجناس المختلفة كالقصة القصيرة، والسرد الصحفي، والتصوير الفوتوغرافي خلاقا. والنص هنا أصيل والبناء محكم والحبكة متينة ولغة النص شعرية أحيانا والنهاية مفاجئة. الخطوج الروائية تمزج بمهارة فائقة ويتم جمعها ببراعة. وقد استخدم الكاتب ضمير المخاطب وهذا ما لا نراه في كثيرا من النصوص القصصية
ومما يدعو للتفاؤل أن الكتاب استطاعوا إنتاج مثل بعض هذه الأعمال في ظل الظروف الحالية الصعبة التي يمر بها العالم العربي. حيث عالج بعضهم القضايا السياسية ببراعة؛ مثل كيفية تسرب الفساد ببطء إلى أن يتدمر النسيج الاجتماعي. وعلى سبيل المثال هنا، مجموعة الكاتب الفلسطيني مازن معروف “نكات للمسلحين” التي فازت بالجائزة بالإجماع. كتبت هذه المجموعة على خلفية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وهوما يتناوله الكاتب في بعض القصص فعليا وبعضها الآخر مجازيا. وذكرتني بكتابات الكاتب الفلسطيني الراحل إيميل حبيبي إلا أن معروف تميز عن حبيبي بقدرته على خلق عالم سوريالي يتوازن فيه ويتساوى الخوف والمرح والسخرية والكابوسية. ويتعامل معروف مع هذا الموضوع الجاد بسخرية وفكاهة أحيانا لينتج نصا مضحكا ومبكيا في آن واحد . وقد نجح في تعرية وحشية ودموية المحتل بسلاسة وخفة في هذه المجموعة دون أي ذكر للأحداث السياسية التي اسهمت في إنتاج هذه النصوص
ويمكن القول أن القلة القليلة من الكتاب قد نجحت في نقلنا إلى عالمهم الغرائبي الخاص وقدمت لنا قصصا قصيرة فريدة لا تصور الواقع فقط بل تعيد تشكيله. وخلق البعض نصوصا غنية متعددة الدلالات ذات رؤية خاصة قد تساعدنا على فهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا، وهذا يشكل انتصارا لنا وللغتنا وأدبنا بالرغم من كل التحديات
“*objective correlative”
“*Over-writing”
“*Trauma Literature