أدي تصريح منسوب إلى ابن وزير العمل والسياحة في الأردن نضال القطامين إلى زوبعة افتراضية اجتاحت مواقع التواصل الإجتماعي منذ عدة أسابيع. فقد قام ابن الوزير بنشر تعليق على الفيسبوك يهاجم فيه سائق سيارة من نوع كيا بعد مشاحنة نشبت بينهما حين توقفه عند إشارة ضوئية. و كان ابن الوزير قد قام بنشر ما يلي على صفحته في الفيسبوك “الناس غاضبون مني لمجرد أني أسوق سيارة مرسيدس س كلاس. وكما وصفه بعض أصدقائي , هذا شخص حاقد. ومن الصعب فهم نفسية هؤلاء السافلين المريضين والمتخلفين فكرياً في هذا البلد.” وقد اعتذر القطامين لاحقاً عن تعليقاته قائلاً أنه لم يكن يقصد أية إهانة. كما عبر عن دهشته من مدى ردود الفعل تجاه الحادثة
على الرغم من اعتذار القطامين إلا أن تعليقاته التي ترجمت إلى العربية, و انتشرت بسرعة, أدت الى ثوره افتراضية في مواقع التواصل الإجتماعي. وقام العديد من النشطاء والمغردين بنشر تعليقات استياء واستنكار اتجاه الحادثة تحت وسم ابن _الوزير#. وفيما اشتبه بعض المعلقين أن الحكومة ترغب في إثارة النزاع الطبقي, عبر آخرون عن غضبهم لأن راتب الوزير القطامين مدفوع من عرق جبين المواطنين الذين يدفعون الضرائب. ورغم أن هذه الحادثة ليست, بحد ذاتها, بتلك الأهمية، إلا أنها تعد مؤشراً على حالة الامتعاض من الطريقة التي يعامل فيها الأغنياء والمتنفذين مع الفقراء والأقل حظاً في المجتمع الأردني, ناهيك عن أمد طويل من اللامساواة
العاصمة عمان مقسومة إلى شطرين أشبه ما يكونوا بكونين متوازيين, يقع الشطر الأول في الناحية الغربية وأغلب سكانه من الأغنياء المترفين وأما الشطر الثاني فيمتد في الناحية الشرقية من العاصمة وأغلب قاطنيه من الفقراء المحرومين. بدأت تجربتي مع ما يعرف ب”الربيع العربي” في كانون الأول عام 2010. ففي عطلة العيد المجيد اندلعت مشاجرة بين طفيليين وهم شرق أردنيون و محسيريين وهم فلسطينيون في منطقة جبل التاج في عمان الشرقية وهو أحد الأحياء المزدحمة والتي غالبية سكانها من الفقراء. وأدت المشاجرة إلى قيام شرطة مكافحة الشغب بمحاصرة الأحياء الحي مستعينة بالآليات المسلحة والسجون المتنقلة مما حدا بالمتقاتلين المشحونين ومعظمهم من الشباب بالهتاف تنديداً بالاضطهاد وبإلقاء الحجارة وحرق الإطارات ومهاجمة السيارات . فما بدأ كمشاجرة بين مجموعات متنافسة أخذ منحناً سياسياً تجلى بقيام المتظاهرين في نهاية المطاف بترديد هتافات تطالب بالإصلاح. ومنذ تلك الحادثة, بدأت الأزمة بالتصعيد حيث أصبحت هناك حوادث طعن و إطلاق رصاص متكررة في حي كان ينعم بالأمن والسلام
فور بدء قوات الأمن استعمال الغاز المسيل للدموع قمنا بإغلاق كل النوافذ والستائر وتلثمنا بالأوشحة. ذهبت خارجاً لأرى ما يحدث وحاولت تسجيل الإشتباكات والتقاط الصور ولكنها لم تكن واضحة بسبب الظلام والدخان. وفي صباح اليوم التالي لم يبق اى اثر لليلة السابقة، اذ تم إحضارعمال النظافة قبل الفجر لتنظيف المنطقة من اي دليل للاشتباكات. كان الأثر الوحيد المتبقي لما رأته عيناي هو علبة الغاز المسيل للدموع ،المصنوعة في البرازيل، التي سقطت في حديقة أحد جيراننا في الحي
وفي اليوم التالي كان لدي اجتماع في فندق حياة عمان الذي تصل كلفة الإقامة فيه لليلة واحدة إلى 515 دولار أي أعلى من معدل الدخل الشهري للكثير من الأردنيين، أما الجناح فتبلغ كلفته 6166 دولار. عند دخولي الفندق، وجدت نفسي وسط واحة هادئة مليئة بالأزهار المستوردة الباهضة الثمن تتوسطها مدفأة وشجرة عيد ميلاد مذهلة انعكست صورتها على الواجهة الزجاجية فوق ظل لمئذنة مضيئة منتصبة فوق تلة بعيدة. وكانت نغمات الموسيقي الكلاسيكية الممزوجة بأصوات قرع الكؤوس و الضحكات تتردد في المكان ورائحة العطور والسيجار الغالي تعبق في الأجواء. كثيراً ما يقوم فندق حياة عمان بتنظيم حفلات تذوق النبيذ للأغنياء وأصحاب الذوات. ووظيفة رجال أمن الفندق، الذين يقومون بتفتيش الأشخاص والأمتعة ،هي حماية رجال الأعمال الأجانب والسياح وكل من يستطيع شراء مشروب بسعر 7 دولار. أما قبح الأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين و بيوت صفائح “الزينكو” فهي بعيدة عن العين والقلب. فهذا الجزء “الراقي” من المدينة يكاد لا يدرك شيئاً عن ذاك الجزء الثاني القابع على مرمى بضعة أميال فقط والذي كان متقداً في الليلة الماضية، خاصة أن مثل هذه الأحداث لا تحتل سوى سطوراً قليلة في بعض الصحف الإلكترونية
ترجع بي ذاكرتي إلى الوراء عندما كنت جالسة في أحد مقاهي عمان الغربية أحتسي القهوة مع صديقة لي لينضم إلينا ابن أحد العوائل الغنية المتنفذة. أخذنا النقاش إلى الوضع الراهن، وحين قلت أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء آخذة بالاتساع و أصبحت أكبر حجماً وأكثر وضوحاً مما قد يؤدي إلى تداعيات لا يحمد عقباها كانعدام الأمن والإستقرار رد قائلاً: “يجب على الفقراء أن يبحثوا عن وظائف ويباشروا بالعمل”. استأذنتهم على الفور وأخذت سيارة أجرة لأعود إلى عمان الشرقية حيث يسكن والداي. في الطريق, قال لي سائق التاكسي أن الفجوة بين دخله وما عليه إنفاقه شهريا تبلغ حوالي 423 دولار. بحسب إحصائيات البنك الدولي 12% من الأردنيين تحت خط الفقر
يقبل معظم سكان عمان الشرقية بأي وظيفة كانت مثل ترميم الملابس وبيع السلع الرخيصة وتصليح الأواني وتوصيل الطلبات والمشتريات للمنازل. وعلى الرغم من ذلك، ازداد عدد الشباب المتسكعين في الشوارع. وبحسب تقارير البنك الدولي إن معدل البطالة الرسمي المعلن عنه يقدر ب 15% بينما يتراوح في الواقع ما بين 25-30%. ويصل معدل البطالة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20-23 سنة إلى 40% و36% لمن تتراوح أعمارهم بين 25-39 سنة. إن عدم وجود فرص عمل إضافة إلى قلة المراكز الترفيهية والمساحات المخصصة للمجتمع المحلي يؤدي إلى الشعور بالإحباط العام الذي يحوله أقل استفزاز إلى غضب عارم
لذلك، ضربت تعليقات ابن الوزير على الوتر الحساس لا سيما أن الفساد والمحسوبية في تفشٍ مستمر. عندما كنت في الأردن، ذهبت إلى إحدى الدوائر الرسمية لأقوم بتجديد بطاقة الأحوال المدنية. أما رحلتي لفرع دائرة الجوازات العامة في المحطة، فقد استدعت إلى ذاكرتي شيئاً مشابهاً رأيته في بوغوتا. ففي عام 2008 ذهبت إلى العاصمة الكولومبية لحضور المؤتمر الرابع و السبعين لنادي القلم الدولي كضيفة شرف. حين وصلت الى الفندق كان في استقبالي ثلاث مجموعات مختلفة من الحرس إضافة إلى الكلاب البوليسية. فالجرائم منتشرة والأجانب في خطر إذ لا يسمح لهم بالتجول أو حتى مغادرة الفندق بدون حماية أمنية مشددة. وفي إحدى المرات التي غادرنا فيها الفندق ركبنا باصاَ صغيراً مر بنا في شارع بدون أية إضاءة. بدا المنظر كأنه نسيج من وحي مخيلتي. فجأة، وجدت نفسي أمام مشهد من فيلم عن نهاية العالم إذ كانت الحشود تتجمع لشراء البضائع أو للمقايضة عليها في الظلام، أي سوق سوداء بالمعنيين المجازي والحرفي. نشر الباعة المتجولون رقعهم على الأرض لتترامى على جانبي الشارع. وعلى بعد بضعة أمتار ترى النيران والدخان وتسمع الموسيقى الصاخبة، ورائحة الطعام الدسم تفوح في الهواء. احتشد الناس في الشارع يغنون ويرقصون في الظلام مما اضطر السائق إلى القيادة بحذر ليتفادى الاصطتدام بالأكشاك المتنقلة
على خلاف بوغوتا، كان الوقت مبكراً والشمس ساطعة في عمان. أخذت تاكسي إلى المحطة ولكن المرحلة الأخيرة من رحلة تجديد البطاقة كانت بطيئة. بدا المكان مثل سوق البراغيث او الجمعة إذا كان مليئا بالاكشاك المتنقلة لبيع الملابس والأحذية والأثاث القديم والأساور وقلائد الخرز. تم نشر البضائع ومعظمها مستعملة ورديئة الصنع على الأرض بل وتجاوزت الرصيف لتُنثر في الشارع نفسه فكان لابد لسائق التاكسي من توخي الحذر كي لا يدهس الباعة وبضائعهم المبعثرة في كل مكان
عندما وصلنا الفرع المحلي لدائرة الجوازات بدا كل شئ متواضعاً ولكن منظماً. وكانت الإشارة الوحيدة من الماضي التي تلوح في المكان هي الرجل المسن الذي يجلس على كرسي قش ويبيع الطوابع في الخارج. قدمت طلبا ثم دفعت ووقفت في الطابور. لم أرى أي دليل على معاملة تفضيلية. في أثناء انتظاري اتصل بي مسؤول رفيع المستوى وسألني عن مكاني. وعندما أوضحت له أنني أنتظر تجديد بطاقة الأحوال المدنية أجابني مستغرباً: “لماذا؟ سأصطحبك إلى مدير الجوازات العامة وتجدد بطاقتك بينما تنتظرين في مكتبه مستمتعة بكاسة شاي”. رفضت عرضه بأدب
هذه الواقعة تدل على أن الكثير من المتنفذين والأغنياء في البلد يدبرون شؤونهم دون تعبئة نماذج أو الإنتظار في طوابير حيث يدير لهم أمورهم ومعاملاتهم آخرون. وفي بعض الأحيان يحصلون على مبتغاهم و يقومون بإجراءات رسمية بدون أية زيارة، حتى لو شكلية, للدائرة أو الوزارة المعنية. وهذا خير دليل على تفشي الواسطة والمحسوبية. فإذا لم يكن عندك واسطة فلن تستطيع تدبير امورك بسهولة. على سبيل المثال, هناك وظائف معينة في وزارة الخارجية تذهب فقط لأبناء وبنات عائلات معينة. لذلك كانت هذه النقطة بالتحديد، أي الشفافية والوضوح في توزيع فرص العمل، من مدرج مطالب حملة “ظلمتونا” وتيار الإصلاح الأردني حراك
بناءً على ذلك، عندما التقي سكان عمان الغربية مع سكان عمان الشرقية، الأغنياء والفقراء، على تلك الإشارة الضوئية, كان من الطبيعي أن يكون هناك حالة تنافر واستياء أدت إلى مشاجرة. وإن ردود الفعل على العبارات التي كتبها ابن الوزير على صفحته في الفيسبوك، مشيراً إلى الجدال الذي نشب بينه وبين المواطن الأردني العادي، هي ليست موجهة له شخصيا ولايمكن إدراجها ببساطة تحت بند الغيرة أو الحسد أو النزاع الطبقي بل هي خير دليل على حالة القرف العام من الواسطة والمحسوبية والفساد المتفشي والحرمان الاقتصادي
تم نشر هذا المقال في جريدة القدس العربي